تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

أمیرکا لم تؤسّس «داعش»... ولکن

هذا لا یعنی ان هناک أسس لبضع نظریّات المؤامرة السائدة فی العالم العربی عن ظروف إنشاء «داعش»، وأن الحکومة الأمیرکیّة هی کانت وراء تأسیس التنظیم بصورة مباشرة، أو أن بن لادن یستمتع بأشعّة الشمس على شواطئ هاوای بحراسة الشرطة الأمیرکیّة. من الضروری التمییز فی الأخذ بنظریّات المؤامرة بین المؤامرات الحقیقیّة وبین المؤامرات المُتخیّلة.
رمز الخبر: ۶۰۲۶۹
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۲:۵۹ - 02October 2014

أمیرکا لم تؤسّس «داعش»... ولکن

أسعد أبو خلیل
تتعاظم النظریّات وتتوارد حول أصول تأسیس حرکة «داعش» فی الإعلام والثقافة العربیّة. لم یحدث أن صعدت حرکة بهذه السرعة وأن تمتّعت بالقدرة على بسط النفوذ على أراضٍ شاسعة لهذه الدرجة. هناک تحلیلات عدیدة عن ظروف تأسیس «داعش»، أسخفها مِن أبواق آل سعود فی الغرب الذین - رغبة منهم فی تبرئة النظام الراعی - یوغلون ـ على طریقة فؤاد عجمی اللیکودی اللبنانی ـ فی لوم العرب والمسلمین على کلّ ما یعانیه العرب والمسلمون. یصبح فی هذه السردیّة الغزاة الإسرائیلیّون والأمیرکیّون مجرّد عابری سبیل، أو سیّاح متجوّلین.

لکن السؤال الذی لا جواب له عند هؤلاء: إذا کان التخلّف العربی هو الذی ولّد «داعش» فلماذا کانت الولادة دراماتیکیّة ومفاجئة، ولماذا لم تکن الحرکة لتنمو بالتدریج مثل الحرکات الإسلامیّة التی زخر بها العالم العربی على امتداد العقود الماضیة؟ لکن الدعایة السیاسیّة لیست علوماً اجتماعیة ولا یمکن الرکون إلیها لتحلیل أو تفسیر ظواهر اجتماعیّة أو اقتصادیّة.
نستطیع فی البدایة أن نؤکّد أن بعض النظریّات السائدة فی إعلام الممانعة خاطئة بالنسبة إلى أصول «داعش»: لم یرد فی کتاب هیلاری کلینتون الأخیر انها اجتمعت مع محمّد مرسی (أو مع قادة من الإخوان فی روایات أخرى) من أجل وضع لمسات اتفاق نهائی على إنشاء «داعش». لم تکن «داعش» فی الحسبان عندما کتبت هیلاری (أو عندما کتب مساعدوها) کتابها. والنظریّة أن جون ماکین عقد اجتماعاً مع أبو بکر البغدادی لیست صحیحة هی الأخرى: نجح «داعش» فی دحض تلک النظریّة بفعالیّة على مواقع التواصل عندما فنّد 100 من الأکاذیب - کما وصفها - عنه. (إن نشر الأکاذیب عن أفعال «داعش» من قبل الإعلام النفطی والغازی یساهم فی دعم دعایة «داعش» لأن قدرته على دحض الأکاذیب تعزّز الشکوک فی صحّة جرائم حقیقیّة یرتکبها، إذ إنه یزرع الریبة فی نفوس العامّة فی الأخبار عن الحرکة). ولیس صحیحاً أیضاً (أستطیع ان أؤکّد) أن وثائق إدوار سنودن تتضمّن «خبریّة» عن «داعش» وعن أن أبو بکر البغدادی هو صنیعة وکالة الاستخبارات الأمیرکیّة.
أما الصحیح فهو ان البغدادی قضى وقتاً فی سجون الاحتلال الأمیرکی فی العراق. ولیس صحیحاً ما ورد فی بعض وسائل الإعلام الأمیرکی ان البغدادی قضى فی معتقل «بوکا» الأمیرکی فی العراق بین سنوات 2005 و2009، بینما هو لم یقضِ أکثر من أشهر عام 2004. من المُستغرب ان البغدادی، على الرغم من أهمیّته فی تنظیم «القاعدة» فی العراق، أطلق سراحُه بسرعة قیاسیّة مع ان الحکومة الأمیرکیّة لم تتورّع عن اعتقال أحداث فی غوانتانمو وفی أفغانستان وفی العراق بالرغم من عدم ثبوت تورّطهم فی أعمال تسمّیها أمیرکا (إذ انها وحدها یحقّ لها التعریف) بـ«الإرهابیّة». لماذا یحق التساؤل عن سبب إطلاق سراح شاکر العبسی من سجون النظام السوری ولا یحقّ التساؤل عن التعاطی الرؤوف مع البغدادی فی الأسر الأمیرکی؟ ما هی ظروف اعتقال وإطلاق سراح البغدادی السریع؟ لم تجب أمیرکا للساعة عن هذا السؤال کما ان مسؤولاً عسکریاً أمیرکیاً سابقاً تحدّث للصحافة عن اعتقال البغدادی وزعم انه بقی فی المعتقل لسنوات، وهذا کذب.
هذا لا یعنی ان هناک أسس لبضع نظریّات المؤامرة السائدة فی العالم العربی عن ظروف إنشاء «داعش»، وأن الحکومة الأمیرکیّة هی کانت وراء تأسیس التنظیم بصورة مباشرة، أو أن بن لادن یستمتع بأشعّة الشمس على شواطئ هاوای بحراسة الشرطة الأمیرکیّة. من الضروری التمییز فی الأخذ بنظریّات المؤامرة بین المؤامرات الحقیقیّة وبین المؤامرات المُتخیّلة. لم تکن أمیرکا، مثلاً، وراء تفجیرات 11 أیلول، ولیس صحیحاً ما یتداوله بعض العرب عن ان الیهود أحجموا عن القدوم إلى مکاتبهم فی نیویورک یوم 11 أیلول (على افتراض - من أصحاب النظریّة تلک - أن العدوّ الإسرائیلی اعلمهم مُسبقاً بموعد التفجیرات). هناک خزعبلات یصدّقها بعض العرب، کما أن هناک خزعبلات یصدّقها بعض الأمیرکیّین (إن نظریّات المؤامرة عن اغتیال کینیدی لم تزدها السنون إلا عدداً).
لکن تحمیل أمیرکا مسؤولیّة تفریخ التنظیمات الإرهابیّة الجهادیّة له أسس تاریخیّة وسیاسیّة حقیقیّة. لم یأتِ تنظیم «القاعدة» من عدم، بل هو ولید سنوات وعقود طویلة من التآمر الأمیرکی فی منطقتنا العربیّة فی حقبة الحرب الباردة. إن التأثیر المباشر وغیر المباشر للحکومة الأمیرکیّة فی رسم الخریطة السیاسیّة للمنطقة العربیّة فی بعد الحرب العالمیّة الثانیّة لا یقلّ عن المفاعیل الکارثیّة لاتفاقیّة سایس-بیکو: هی قرّرت (وتقرّر) من یستحق البقاء ومن یستحق الزوال من الأنظمة العربیّة (وحتى من الکیانات)، وهی التی قرّرت (وتقرّر) من یستحق التقسیم ومین یستحق التوحید من الکیانات العربیّة (هی کانت وراء تقسیم السودان والعراق وهی التی کانت بهدف إنهاء تجربة الحکم المارکسی فی جنوب الیمن - وراء القضاء على جمهوریّة الیمن الجنوبی).
إن الحرب الباردة (الأمیرکیّة) خاضت معارک وحروباً من أجل منع التحوّل السیاسی عن المنطقة العربیّة. کان العالم العربی فی الخمسینیات والستینیات واعداً من حیث انتشار الفکر المتحرّر والتوحیدی والتقدّمی والنسوی، لکن أمیرکا حاربته فی کل موقع وکیان من أجل ترسیخ بنى الأنظمة الرجعیّة التی کانت - ولا تزال - تعقد معها أوثق علاقات التحالف. اعترف أرتشی روزفلت، المسؤول السابق عن الشرق الأوسط فی وکالة الاستخبارات الأمیرکیّة، فی کتابه «من أجل شبق المعرفة» أنّ حکومته کانت توازی بین الخطر الشیوعی وبین الخطر القومی العربی وان کل تجلیّات الفکرة الأخیرة کانت تُحارب من قبل أمیرکا. لم تستقرّ القطریّة، کیاناً وأفکاراً، هکذا اعتباطاً فی مجتمعاتنا. إن الترویج للفکر التجزیئی التقسیمی المحلّی والقبلی (مَن ینعش العشائر غیر الاستعمار الغربی؟) کلّف أنظمة الخلیج ملیارات کلّفتها أمیرکا بإنفاقها (لیس من جیبها) دعماً لدیمومة الأنظمة. العید الوطنی السعودی ومتحف ملابس ونعال «الملک المؤسّس» بالإضافة إلى رقصة کرکلا عن منجزات الشیخ زاید الأمّی، کل ذلک کان من أجل الإیحاء بوجود أمّة على نطاق مضرب خیمة فی الصحارى العربیّة. ینتظم الأولاد فی المدارس ویستمعون لمحاضرات مملّة عن إنجازات وعظمة کیاناتهم التی باتت، على طریقة الکیان اللبنانی المسخ، تستقی إلهامها الإیدیولوجی من تاریخ سحیق لحضارات أخرى ومن مسرحیّات باهظة الأثمان عن حضارات لم تقم لها قائمة یوماً.
والصراع العربی فی الخمسینیات والستینیات کان جزءاً منه حرب مبارکة بین فکر تنویری وفهم تقدّمی للإسلام ساد بین الناس وبدعم من النظام الناصری المؤثّر، بین الفکر الرجعی الحنبلی الذی تبنّته أنظمة النفظ والغاز، والتی حال بینها وبین سقوطها الدعم الغربی المباشر. فی تلک الحقبة، عوّلت الحکومة الأمیرکیّة على شبکة من الحلفاء من المغرب إلى الخلیج للحفاظ على مصالحها هی، حتى لو على حساب مصالح الشعب العربی. ولم یکن العدوّ الإسرائیلی بعیداً من التشکیلة السیاسیّة التی زرعها الاستعمار بیننا: النظام الأردنی کان منضویاً فی الحلف الرجعی الدینی - حتى الملک حسین ضربته «نوبة الدین»، کما سخر منه جمال عبد الناصر. رعى النظام الأردنی أوّل حزب رجعی یدعو إلى إقامة الخلافة («حزب التحریر»). لم یکن الدین عاملاً فی السیاسة الخارجیّة للدولة السعودیّة إلا بعد أن أوعزت لها أمیرکا بضرورة فعل ذلک. لم تکن للنظام السعودی سیاسة خارجیّة غیر ترجمة عربیّة لسیاسات بریطانیا.
باشرت امیرکا مُبکّرة (فی الخمسینیات) مشروعها لما یسمّیه فهمی الهویدی بـ«استدعاء الدین» لأغراض سیاسیّة (محمودة غالباً فی نظر الأخیر). استدعت أمیرکا الدین الإسلامی لتقویض بنیان الحرکات السیاسیّة التقدمیّة (على أنواعها الغنیّة والمزدهرة آنذاک، ولیس الشیوعیّة منها فقط - لم یکن المهدی بن برکة شیوعیّاً، ولقد تعاونت استخبارات العدوّ الإسرائیلی والفرنسی، وربما الأمیرکی، على التخلّص منه کرمى لعیون الطاغی الحسن الثانی). أمیرکا قرّرت الاستعانة بالإسلام الرجعی قبل ان تستفیق المملکة السعودیّة على فائدة رمیه بوجه جمال عبد الناصر (بعدها، دأب الإعلام السعودی على تکفیر عبد الناصر وعلى تکفیر کل من لا یتفق بالرأی مع سیاسات أنظمة الخلیج). کانت الحکومة الأمیرکیّة تدعو رجال الدین المسلمین من کل أنحاء العالم العربی من أجل بلورة رؤیة مشترکة ضد الشیوعیّة والاشتراکیّة بحجّة محاربة الإلحاد. وقد عقدت الحکومة الأمیرکیّة مؤتمراً عن الإسلام فی جامعة «برنستون» فی منتصف الخمسینیات ودعت إلیه رجال دین من کل أنحاء العالم الإسلامی. ورعت الحکومة الأمیرکیّة مؤتمر مؤسّسة دراسة الاتحاد السوفیاتی فی میونیخ فی حزیران 1960 عن «الإسلام والشیوعیّة» (راجع الکتاب الذی نُشر عنه من قِبل جان بینار).
لکن الإسلام الرجعی لم یکن فعّالاً أبداً فی عهد عبد الناصر، لکن استدعاءه من قبل نظام أنور السادات (الرئیس «المؤمن» - أسبغ اللقب على نفسه قبل ان یسبغ الملک الفهد لقب «خادم الحرمیْن» على نفسه، وکأن خدع کسب الشرعیّة السیاسة لم تکن بادیة للعیان) زاد من الفعّالیّة. تلاقت هزیمة 1967 مع الإصرار الأمیرکی على ضرورة استدعاء الإسلام الرجعی الذی یتفق مع عقیدة آل سعود لتنعش من الحرکات الإسلامیّة فی العالم العربی. وکان الملک حسین دؤوباً هو الآخر على رعایة الإسلام الرجعی بوجه الحرکات التقدمیّة التی عرفها الأردن منذ الخمسینیات. ورعت أمیرکا نظام أنور السادات الذی أطلق العنان للحرکات الإسلامیّة فی مصر وفی العالم العربی لخدمة أغراضها فی الحرب الباردة. وسمح النظام المصری بعودة دعاة الفتنة والرجعیّة والظلامیّة من دول الخلیج (بعد ان کان النظام الناصری قد أقصاهم بأدب شدید خلافاً لدعایات ظالمة عن حملات إعدام - یعدم النظام السعودی فی شهر من الزمان أکثر مما أعدم النظام الناصری فی تاریخه). فی المقابل، قاد عبد الناصر ثورة حقیقیّة فی المؤسّسات الدینیّة المصریّة (والعربیّة) وکرّس فصل الدین عن الدولة من دون إعلانات استعراضیّة للغرب على طریقة بورقیبة (فی مؤتمر صحافی من عام 1990، فی أواخر کانون الثانی أعلن جورج حاوی ان الحزب الشیوعی اللبنانی قرّر أن یتخلّى عن «نشر الإلحاد». لکن متى وکیف نشر هذا الحزب الإلحاد مرّة واحدة فی تاریخه؟) شعر رجال الدین بسطوة الفکر التقدّمی واضطرّ بعضهم إلى الدفاع عن معتقداتهم بوجهه (کتب مصطفى السباعی، مؤسّس حرکة الإخوان المسلمین فی سوریا، کتاباً عن «اشتراکیّة الإسلام»). وقد طوّع السادات الأزهر بمنحى التزمّت السعودی الوهّابی المترافق مع التساهل الدینی والسیاسی مع العدوّ الإسرائیلی واتلالاته.
ولا یجب التقلیل من فعالیّة الإسلام الرجعی فی الثقافة السیاسیّة المصریّة والهویّة المصریّة: تحوّل السیاسة المصریّة وتعریف الهویّة من الحقبة الناصریّة بسرعة نسبیّة. کما أن العصر النفطی بعد 1973 أدّى إلى سیطرة هائلة على وسائل الإعلام والثقافة فی العالم العربی. لم یکن اندحار الیسار والشیوعیّة فی العالم العربی (هل مَن لا یزال یذکر ان الحزب الشیوعی السودانی کان فی عهدٍ ما أکبر حزب سیاسی فی کل العالم العربی؟) عفویّاً، أو بناء على عوامل ذاتیّة فقط.
لکن عصر ریغان هو الذی أطلق العنان للجنون الإرهابی المُتلبّس بالدین. إن الحلف الوثیق الذی عقده الملک فهد (منذ ان کان أمیراً) مع رونالد ریغان (وبمشارکة مباشرة من بندر بن سلطان) غیّر من معالم السیاسات العربیّة والأمیرکیّة فی المنطقة الأمیرکیّة. نشط فهد کما لم ینشط طاغیة عربی قبله فی مدّ العون المالی والعسکری للحکومة الأمیرکیّة لمحاربة الشیوعیّة حول العالم، من الیمن إلى أفریقیا إلى إیطالیا حیث کان النظام السعودی یموّل الحزب الدیمقراطی المسیحی الیمینی منعاً لوصول أکبر حزب شیوعی أوروبی إلى السلطة، إضافة إلى تمویل النظام السعودی إلى حرکات عنصریّة یمینیّة قریبة من نظام الفصل العنصری فی أفریقیا، مثل حرکة جوناس سفمبی فی أنغولا). والملک فهد، ربما لعلمه بتاریخه الطویل البعید من التُقى والورع المزروع بالقوّة فی المناهج الدارسیّة والقوانین فی المملکة، بالغ فی تمویل الحرکات الإسلامیّة حول العالم (تستطیع ان تستشفّ من الأرقام تنامی التمویل السعودی لدعاة الوهّابیة: ففی عام 1975 بلغ حجم التمویل السعودی - فقط من خلال رابطة العالم الإسلامی من خلال تقریرها لعام 1987 - للدعاة وحفظة القرآن حول العالم 2378000 ریال سعودی، فیبما بلغ عام 1983 قیمة 25655000 ریال سعودی. ولم تکن الحکومة الأمیرکیّة بعیدة من هذا الجهد فقد سمحت بمضاعفة التمویل السعودی لدعاة الوهّابیّة فی أمیرکا نفسها (من خلال الرابطة فقط) بین عام 1981 و1982 لیبلغ 2321000 ریال سعودی.
کما أن «مؤسّسة الحرمیْن» ذکرت فی تقریرها المالی لعام 2003 أن 35% من إنفاقهما الإجمالی رُصد للتعلیم الدینی والدعوة مقابل 14% فقط للإغاثة. ومن الجدیر بالذکر ان الحکومة الأمیرکیّة أمرت النظام السعودی بحلّ المؤسّسة المذکورة لأن أموالها أنفقت على أعمال «إرهابیّة»).
لکن عقیدة ریغان (التی حکمت بردّ النفوذ الشیوعی ولیس إحتواءه فقط) بلغت أوجها بعد الاجتیاح السوفیاتی لأفغانستان. عقدت أمیرکا النیّة على کسر شوکة الاتحاد السوفیاتی فی أوّل حرب لیست بالواسطة فی الحرب الباردة: تحمّس ریغان لتسخین الحرب تلک واستعان بالنظام السعودی الذی شارکه الحماسة نفسها. إن أمیرکا هی التی أنشأت أوّل جیش إسلامی جهادی عالمی یسعى إلى إقامة خلافة. لم تکن الخلافة تلک تقلق راحة الإدارة الأمیرکیّة (التی شبّه رئیسها «جیش المجاهدین الأفغان» بـ«الآباء المؤسّسین» للجمهوریّة الأمیرکیّة) طالما هی تأتی على أنقاض الحکم الشیوعی. لم یکن الجیش الأممی بدافع الارتزاق بل طمعاً بالجنّة وطیّباتها.
ولد بن لادن من رحم هذا الجیش العالمی الذی أشرف ترکی الفیصل (الذی یجود بنظریّات حول «محاربة الإرهاب» هذه الأیّام) على تنظیمه وتمویله وتسلیحه - شراکة مع الاستخبارات الأمیرکیّة. لم تفصح الحکومتان بعد عن طبیعة العلاقات بین عملاء الوکالة على الأرض الباکستانیّة وبین بن لادن (على الأقل یعترف کل أمراء آل سعود، بما فیهم الملک الحالی، بعلاقاتهم مع بن لادن ولا یزال ترکی الفیصل یشید به ویخمّن ان المصری الظواهری هو الذی أفسده)، لکن «إیکونومیست» الرصینة قالت فی خریف 2001 إنّ الاستخبارات الغربیّة بقیت على علاقة معه حتى 1994. کان بن لادن مُتلقّیاً أساسیاً للسلاح والمال السعودی ــ الأمیرکی فی تلک الحرب. (کتب أحمد رشید باستفاضة عن تلک الحرب فی کتابیْه «طالبان» و«جهاد»، واتهم جورج دبلیو بوش بسرقة کتاباته فی مذکّراته).
لکن الفیلم الأمیرکی المُتوحّش لم ینته فی أفغانستان. لقد فتح الغزو الأمیرکی للعراق الباب أمام تشکیل تقلید لمبادرة أمیرکا الأفغانیّة: لم تنشئ الحکومة الأمیرکیّة تنظیم «القاعدة فی بلاد الرافدیْن» لکن لم یکن سیُکتب للتنظیم هذا ولقائده حیاة لولا غزو العراق. ویغلب الغرور والصلف على سلوک الإمبراطوریّات ما یحکم علیهم بتکرار أخطائهم، ما یوقعهم فیما بعد فی تهلکة حتمیّة. أعادت الحکومة الأمیرکیّة السیناریو نفسه فی إصرارها على إسقاط نظام القذّافی (الذی کان قد قبل بخدمتها لکن حلمت بنظام یحاکی فی طاعته أنظمة الخلیج والأردن)، سلّحت وموّلت عصابات من الجهادیّة السلفیّة من کل الأقطار العربیّة، وزادت علیها سماحها لدول الخلیج بالعون المالی والحربی. من المحتم ان المثال لیبی مُقبل على توحّشات إضافیّة بلمسات أمیرکیّة. ستعود أمیرکا (بسلاحها) إلى لیبیا، کما عادت إلى أفغانستان عام 2001.
لکن تشکیل تنظیم «داعش» کان حتمیّاً. لم تتبنّ الإدارة الأمیرکیّة الفتنة المذهبیّة التی أشعلتها السعودیّة عام 2003 بالتفاهم مع أمیرکا (وذلک من أجل تقویض دعائم التأیید الشعبی لحرکات المقاومة ومن أجل تحویل العداء العربی ضد دولة العدوّ إلى عداء مُوحّد ضد إیران) فحسب بل هی ساهمت فی خلق الأجواء الملائمة من أجل انبعاث أعتى حرکات الإرهاب والتعصّب فی العالم. کان محتّماً ان تولد حرکة «داعش» و«النصرة» وغیرها من التنظیمات التی تعجّ بها الساحة السوریّة، ولو لم تولد تلک الحرکات لکان واجباً خلقها. إن سیناریو أفغانستان ولیبیا یُعاد صنعه مرّة أخرى، لکن فی التکرار بشاعة ووحشیّة أفظع. لم یقم النظام القطری والسعودی والترکی بتسلیح وتمویل ورعایة حرکات إرهابیّة جهادیّة مسلّحة من دون إذن ورضى أمیرکی. هذه أنظمة مطیعة إلى درجة الذلّ، وهی لا تغضب أمیرکا عن قصد. هی نسّقت مع الحکومة الأمیرکیّة فی قراراتها فی سوریا، کما ان الصحف الأمیرکیّة کانت تعترف ان عملاء للاستخبارات الأمیرکیّة کانوا موجودین على الأرض فی سوریا وینسّقون عملیّات التمویل والتسلیح، مع إعلانات مضحکة عن وضع أختام الاعتدال الأمیرکی على «الثوّار» (وبالمعیار الأمیرکی، فإن ابن باز وابن تیمیّة هما فی صفّ الاعتدال).
إن الحکومة الأمیرکیّة مسؤولة بالدرجة الأولى عن خلق «البیئة الحاضنة» لعصابات الإرهاب فی سوریا. هی کالعادة أصبحت مهووسة بضرورة قلب نظام إلى درجة ان الوسائل لم تعد ذات أهمیّة لدیها إلا بعد ان هدّد تنامی التنظیمات تلک مصالحها ومصالح وکلائها فی العراق. هناک من یعترض أن العرب ینزعون نحو لوم أمیرکا على مصائبهم، لکن المصیبة ان العرب لا یلومون أمیرکا بما فیه الکفایة على ما یمرّ علیهم من مصائب وویلات.

المصدر: جریدة الأخبار

 

وکالة الدفاع المقدس للأنباء غیر مسئول عن النصّ و ما ورد فیه و هو لا یعبّر الّا عن وجهة نظر کاتبه.

رایکم
الأکثر قراءة