تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

فـی کوبانـی.. سقط وهم أردوغان وتعثرت إستراتیجیة أوباما

یضاف إلى ما سلف، التحذیر الشدید اللهجة الذی وجهته طهران لأردوغان من مغبة المقامرة والدخول إلى الأراضی السوریة، لأن مثل هذا العمل ستکون له تداعیات کارثیة على ترکیا والمنطقة برمتها.. ما یعنی، أن ترکیا لا یحق لها الدخول إلى الأراضی السوریة حتى لو کان بحجة محاربة “داعش” لفک الحصار عن کوبانی من دون موافقة الحکومة السوریة.
رمز الخبر: ۶۰۶۴۲
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۳:۲۳ - 17October 2014

فـی کوبانـی.. سقط وهم أردوغان وتعثرت إستراتیجیة أوباما

أحمد الشرقاوی

کل الترکیز فی الإعلام العربی والعالمی الیوم هو على المعرکة الطاحنة التی تدور بمدینة عین العرب (کوبانی) بین الأکراد و”داعش” منذ ما یقارب الشهر من الزمن، برغم أنها لیست المعرکة الأکبر من حیث الأهمیة مقارنة مع ما یجری فی بقیة المناطق السوریة والعراقیة، لکن خطورتها تتجاوز ما کان یُعتقد، ففی کوبانی یُرسم الیوم مستقبل الأکراد ومصیر المنطقة.

ولعله لهذا السبب، ذهب بعض المحللین إلى القول أن الطبل فی عین العرب والزفة ستکون فی بغداد بعد سیطرة “داعش” على الأنبار وتقدمها نحو العاصمة العراقیة. وذهب البعض الآخر حد القول، أن ما یحدث فی عین العرب هو لإشغال “النظام” السوری عن الهجوم الکاسح الذی یحضر على العاصمة دمشق من الجنوب، وکأن القیادة السوریة تدیر المیدان من صالونات الفنادق، ولا تعلم ما یحضر فی الکوالیس قبل أن یولد على الأرض..

هذا، علما أن لا علاقة لما یحدث فی العراق بمعرکة ‘عین العرب’ فی الشمال السوری لتعدد الجبهات واختلاف القیادات وعدم إرتباط الجیوش. کما أن لا علاقة لما تقوم به “داعش” فی عین العرب بما تتمنى إسرائیل أن یحدث إنطلاقا من الجنوب، لأن حزب الله والجیش السوری لن یسمحا بأی تحرک مشبوه من منطقة الجنوب، بالإضافة لعدم وجود معلومات عن تحضیرات إسرائیلیة وأردنیة لهجوم من هذا النوع قد یحدث فی المدى المنظور، مخافة العزف النشاج والتشویش على الإستراتیجیة الأمریکیة من جهة، کما وأن “إسرائیل” من جهة أخرى، تعلم قبل غیرها أن أی تحرک إنطلاقا من منصتها سیفتح علیها نار الجحیم من سوریة ولبنان، وینهی عربدتها فی المنطقة إلى الأبد، ورسالة حزب الله الأخیرة لا تزال حاضرة فی الأدهان، بما زرعته من رعب فی قلب الصهاینة..

وبالتالی، مثل هذه التحلیلات، مع إحترامنا لإصحابها، وإن صدرت من متعاطفین مع محور المقاومة، إلا أنها بعیدة کل البعد عن الرؤیة الموضوعیة والتحلیل المنطقی لتطورات الأحداث، وتساهم من حیث یعلم أصحابها أو لا یعلمون فی خلق بلبلـة وتشویش فی عقول الناس وزیادة منسوب الخوف فی قلوبهم، ولا تخدم فی شیىء قضیة المقاومة فی هذه المرحلة الدقیقة من عمر الأزمة.

***

لم تسقط مدینة عین العرب (کوبانی) کما کانت تتوقع ترکیا وواشنطن خلال ساعات، وأبدى مقاتلوها صمودا صلبا.. بخاصة فی صفوف العنصر النسوی الذی صنع أسطورة جدیدة لنضال الأکراد ضد الإبادة العثمانیة والهیمنة الأطلسیة على شعوب ومقدرات المنطقة، أسطورة لا تقل أهمیة عن أسطورة الثورة البولیفاریة، لکن هذه المرة ضد ترکیا الأطلسیة وطموحاتها التوسعیة عبر أداتها المتوحشة “داعش”..

المرأة التی استشهدت بآخر رصاصة بقیت فی بندقیتها حتى لا یغتصبها الدواعش، حفرت عمیقا فی الوعی العام الغربی..

المرأة التی تسللت إلى وکر الدواعش وفجرت نفسها فیهم دفاعا عن أهلها وقومها ومدینتها ووطنها سوریة، أثارت الإعجاب ووضعت حدا فاصلا بین معنى المقاومة ومعنى الإرهاب..

المرأة التی تقود قوات وحدات حمایة الشعب الکردی “میسا عبدو”، المعروفة باسمها الحربی “نارین عفرین”، إلى جانب محمود برخدان (المقاوم بالکردیة) فی عین العرب، أبدت براعة فی القیادة وشجاعة منقطعة النظیر فی المواجهة، مکنت من إفشال هجوم “داعش” وتراجعه فی بعض المواقع واسترجاع موقعین کان قد استولى علیهم التنظیم الإرهابی.. ففسحت المجال لمیلاد نجم جدید فی سماء النضال لزعیمة کردیة تنافس الزعماء الکبار، زعیمة یقول عنها رفاق السلاح، أنها مثقفة وذکیة، وتتمیز بهدوء وبرودة أعصاب، وأنها قدوة فی الأخلاق والطیبة، رغم قساوة الحیاة العسکریة، وهی تتفهم نفسیة مقاتلیها، وتناقشهم فی مشاکلهم بشکل مباشر…

هذا الأنموذج الفرید الذی نادرا ما یتکرر فی التاریخ، أکسب المرأة الکردیة شرعیة الشراکة وتقاسم الأدوار مع الرجل، لیحلق المجتمع الکردی نحو المستقبل بجناحین بدل أن یظل معاقا بجناح واحد، کحال المجتمعات العربیة التی تعامل المرأة بعقلیة القبیلة، باعتبارها مجرد حریم لا یصلح إلا لشغل المنزل نهارا ومتعة الرجل لیلا..

مقتل الإرهابی الخائن، المدعو ‘أبو خطاب’ (الکردی)، الذی کان یقود غزوة “داعش” ضد بنی جلدته فی عین العرب، باعتباره خلیفة للقائد العسکری للتنظیم فی الشمال السوری ‘عمر الشیشانی’، مثلت ضربة معنویة کبیرة للتنظیم ولترکیا التی تقف خلفه.. وأفهمتهم أن أحفاد صلاح الدین الذی یرقد بسلام فی دمشق، لا یمکن أن یسمحوا للعثمانیین الأوغاد بأن تطأ أقدامهم قبره کما فعل نابولیون بونبارت، حین دخل دمشق ووضع رجله على قبر قاهر الصلیبیین ومحرر القدس وقال: “ها نحن عدنا یا صلاح الدین”.

کوبانی الیوم أصبحت فی قلب کل إنسان شریف فی هذا العالم، والأکراد نالوا من تعاطف شعوب الأرض، بسبب الملاحم التی صنعوها، ما لم تنله قضیتهم بالندوات واللقاءات والإعلام وعقود من الصراع المسلح مع ترکیا.

کل هذه البطولات وغیرها.. جعلت الناس فی الغرب یتساءلون فی جنون، کیف یحدث ما یحدث أمام أنظار التحالف؟.. وما الذی یجری بالضبط بین ترکیا و”داعش” لترفض فتح حدودها للمقاتلین الأکراد الذین هبوا بالآلاف نجدة لإخوانهم المحاصرین کالقطیع فی إنتظار یوم الذبح الأکبر؟.. وهل یسعى ‘أردوغان’ إلى تطهیر عرقی على شاکلة ما فعل أجداده المجرمین فی حق الأرمن وغیرهم من الشعوب الإسلامیة الأسیویة والعربیة زمن الخلافة الإستبدادیة، من دون أن تحرک أمریکا وحلفها ساکنا؟.. عن أی إرهاب یتحدثون وأی إرهاب هذا الذی یحاربون؟..

إنها کارثة حقا لـ’أوباما’ وفشل سریع وغیر متوقع لإستراتیجیته المتداعیة، لأنه اصطدم بواقع عنید یتعامل مع الحقائق على الأرض لا المخططات على الورق.. لقد تحولت عین العرب أو کوبانی بالکردیة إلى قضیة رأی عام عالمی، ووضعت الضمیر الإنسانی أمام محک الإختبار، وجعلت الأمم المتحدة وقادة الغرب یخجلون من أنفسهم، وهم الذین طالما تشدقوا بالحریة والدیمقراطیة وارتکبوا أبشع الجرائم فی حق الشعوب والدول باسم حقوق الإنسان..

فتعلیق الوزیر ‘جون کیری’ على ما یحدث بالقول: “إنها مأساة، لکنها لا تؤثر على إستراتیجیتنا على المدى البعید”، أثار العدید من التساؤلات حول ما قصده الوزیر الأمریکی بقوله هذا؟.. وهل سقوط کوبانی والسماح لـ”داعش” بارتکاب مذبحة فظیعة فی حق من تبقى من مدنیین أکراد هو مرحلة تکتیکیة من ضمن الإستراتیجیة الأمریکیة المتوحشة؟.. أإلى هذا الحد سقطت أمریکا أخلاقیا؟..

***

… هذا هو جوهر الموضوع من ألفه إلى یائه، وکل حدیث آخر هو ضرب من الإلهاء.. لأنه وفق ما تکشف من معلومات، کوبانی الیوم هی السر وهی المفتاح.. إذا سقطت.. ستسقط المنطقة برمتها، وإذا صمدت وخرجت من رماد النار کالعنقاء.. سیسقط أردوغان ومعه المشروع الشرق أوسطی الجدید.. لذلک، الإستراتیجیة الأمریکیة الیوم هی على موعد حاسم مع الإستراتیجیة السوریة التی تتولى قیادة الصراع نیابة عن محور المقاومة وروسیا والصین، فی کوبانی بالتحدید. لکن کیف؟..

حسنا، الجمیع أصبح یدرک أن منطق السیاسة الیوم هو البراغماتیة ولغة المصالح، بعیدا عن الأخلاق والعواطف.. وبهذا المنطق، نستطیع فهم لماذا تحرص ترکیا على سقوط کوبانی، لأن الجانب الظاهر من الصراع حول طموحات الحزب الکردستانی العمالی لحکم ذاتی قد یمتد للأراضی الترکیة.. هو مجرد رأس جبل الجلید الذی یخفی قاعدة من الأهداف التخریبیة الخطیرة التی ستقلب کل المعادلات وتوازنات القوى فی المنطقة.

وبذات المنطق، نستطیع فهم تصریح الوزیر ‘کیری’ ما دام ما تقوم به ترکیا هو خدمة لأمریکا و”إسرائیل” ومشروعهما الأطلسی الکبیر للمنطقة على المدى البعید، والذی یمر حتما من بوابة کوبانی.

لکن ماذا بالنسبة للرئیس ‘الأسد’؟.. ألیست کوبانی أرضا سوریة وسکانها مواطنون سوریون لم یتمردوا ولم یرفعوا السلاح فی وجه الدولة السوریة، ولم یعلنوا الإنفصال، وسبق للرئیس الأسد أن بعث لهم بإشارات مفادها أنه لا یعارض حکما ذاتیا لأکراد الشمال بسلطات موسعة لا واسعة فی ظل السیادة السوریة؟..

ومن جهة أخرى، ألیس الإنفجار الذی یحدث الیوم فی ترکیا بسبب کوبانی تحدیدا، وبالضبط کما توقعه الرئیس ‘الأسد’ قبل سنتین، یخدم فی نهایة المطاف سوریة، وینقل النار إلى العمق الترکی، فیعود الصراع المسلح بین الأکراد والجیش الترکی، ما سیشغل أردوغان عن التفکیر فی سوریة وأوهامه السلطانیة البائدة التی حولته إلى طاغیة دموی أعمى، متعطش للنفوذ والثروة؟..

وهذا بالضبط ما حذر منه أردوغان أول أمس بقوله: إن “الإحتجاجات العنیفة التی تشهدها مدن ترکیة عدة بسبب ما یحدث فی کوبانی، هی ‘مؤامرة’ لنشر الفوضى الدمویة فی ترکیا”، واتهم صراحة “النظام” السوری بالوقوف خلفها مع آخرین لم یسمیهم فی إشارة إلى إیران.. وهو موقف یعبر عن إرتباک ناجم عن سوء تقدیر، وعجز عن المعالجة، وهروب إلى الأمام، عبر تعلیق المشاکل التی یخلقها بسیاساته الرعناء المقامرة على شماعة الغیر، وهو یعلم أن سیاسة “صفـر مشاکل” التی إنقلبت علیه مشاکل بالجملة والمفرق من کل حدب وصوب، لا یمکنه أن یطبقها أیضا على الأکراد، فیقرر المضی قدما ولو من خارج التحالف “الدولی” فی إستراتیجیة “صفر أکراد”.

وبالنسبة للقیادة السوریة التی تملک الیوم مقالید القرار للتعامل مع قضیة کوبانی لما لها من خطورة إستراتیجیة على سوریة ومحور المقاومة ککل.. هناک سیناریوهان إثنان لا ثالث لهما:

الأول، أن تترک القیادة السوریة کوبانی تسقط بید “داعش” لتُحمل المسؤولیة لترکیا وحلف واشنطن، الذی لم یستطع الحد من تمدد الإرهاب وخطره على المدنیین کما قال أوباما عند إعلانه عن أهداف حملته ضد “داعش”.. وفی هذه الحالة، سینفذ الأکراد تهدیدهم الذی أطلقه الزعیم ‘عبد الله أوجلان’ من سجنه قبل أیام، فیعود الصراع المسلح بین الأکراد وترکیا إلى سابق عهده، حین دخلت السلطنة فی فوضى عارمة فی تسعینیات القرن الماضی.. وهذا هو السیناریو “العقلانی” الذی یفرضه مسار تطور الأحداث، بغض النظر عن الجانب الأخلاقی.

السیناریو الثانی، أن تتدخل سوریة عسکریا لفک الحصار عن کوبانی وتزوید المدینة بالسلاح والمؤن والمقاتلین لحمایتها من أی هجوم آخر محتمل.. وهذا التدخل یُحتمه قیام الدولة بواجب الأمن والحمایة لمواطنیها، کما تفرضه قواعد الأخلاق التی یلتزم بها محور المقاومة فی صراعه مع خصومه، حتى لو کان تدخله فی هذا الإطار الأخلاقی سیفقد سوریة ورقة التفجیر الکردیة فی ترکیا، مع أهمیتها الإستراتیجیة البالغة، وهذا إحتمال ضعیف، لأن سمة المرحلة هی التصعید فی ترکیا، بدلیل أن أردوغان قرر إعلان الحرب على الأکراد، فعاد جیش الطاغیة لسیاسة قصف الأکراد من الجو فی القرى والهضاب والسهول والجبال على الحدود الترکیة العراقیة، بعد أن بدأت قوافل عودة الأکراد للقتال فی ترکیا بعد أن کانوا قد غادروها عقب إعلان مشروع التسویة السیاسیة بین أردوغان وأوجلان، فتبین أنه کان مجرد خدعة فی إنتظار تصفیة القضیة الکردیة بالکامل، من مدخل محاربة الإرهاب فی إطار التحالف الدولی، لأن “البی کا کا” أو حزب العمال الدیمقراطی الکردستانی مصنف من قبل أنقرة کمنظمة إرهابیة.

ولهاذا یصر أردوغان على إقامة ما أسماه بمنطقة آمنة على الحدود مع سوریة، لذبح الأکراد فی مجزرة قد تفوق ما عرفه التاریخ زمن مذبحة الأرمن، وأن تصمت أمریکا على الجریمة وتغطیها سیاسیا، مقابل رأس “الأسد” الذی تعهد سلطان الدواعش أن یأتی به بفضل جیشه الجرار، لیقدمه لـ’أوباما’ على طبق من ذهب، على طریقة المافیا الکولومبیة، ویفرش له السجاد الأحمر من کوبانی إلى تل أبیب عبر دمشق، والعودة من طریق الضاحیة الجنوبیة إلى مطار بیروت للإعلان میلاد شرق أوسط داعشی جدید، من دون حزب الله ولا أسد ولا مقاومة ولا إیران ولا بطیخ.. یحکمه زعیم الأممیة الإخونجیة وخلیفة المسلمین الحقیقی، السلطان أردوغان.. فتتحقق أوهامه الإمبراطوریة تحت عباءة الدین ضدا فی نظریة ابن خلدون التی تقول، أن الخلافة أمر بید السماء، وهی وحدها دون سواها من تهیىء الظروف لإقامتها، وتختار من تتوفر فیه الشروط لتولیها، وتمهد له طریق النصر والتمکین، لا أمریکا وحلفها الأطلسی.

والمرجح بقوة، أن تتخذ دمشق الخیار الثانی، فتتدخل لإنقاذ مدینة کوبانی السوریة، لأن النظام لا یمکن أن یتعامل مع تحریر المناطق بانتقائیة وفق معاییر جغرافیة، عرقیة أو مذهبیة، وهو الذی یرفع شعار العلمانیة، والدفاع عن الحقوق والشرعیة والقانون والأخلاق.. لکن أمام هذا التدخل شروط وعقبات ومحاذیر کثیرة، أسوؤها احتمال الإحتکاک العسکری مع سلاح حلف واشنطن أو ترکیا، لتکون ذریعة للرد، ما سیستدرج تدخل الحلف الأطلسی لحمایة ترکیا ضد “العدوان” السوری وفق مقتضیات البند 50 من إتفاقیة الشراکة فی حلف “الناتو”، بغض النظر عن شرعیة هذا التدخل من عدمها من وجهة نظر القانون الدولی وفق قاعدة المعتدی والمعتدى علیه.

هنا تتحول المسألة إلى قضیة إقلیمیة، وفی هذا الإطار تحدیدا یفهم طلب إیران قبل یومین من دمشق، الترخیص لها فی إطار إتفاقیة الشراکة والتعاون الإستراتیجیة التی تجمع البلدین، بالتدخل لمساعدة أبطال کوبانی فی الدفاع عن أنفسهم ضد الهجوم الإرهابی الغاشم.. وهی رسالة واضحة إلى ترکیا والأطلسی، مفادها: أن إیران حاضرة بقوة فی المیدان، وغطاء شرعی وقانونی من دمشق.

ونعتقد أن مثل هذا التدخل هو قائم بالفعل، لکن بأسلوب صامت وذکی، وإلا لما صمدت کوبانی طول هذا الوقت، وأمریکا کانت تقول أن سقوط المدینة مسألة ساعات، ولما تراجعت “داعش” فجأة، من السیطرة على 40% قبل یومین إلى 20% الیوم من مساحة المدینة.. ولو لا هذا التدخل لما افتخر الأکراد بوطنهم سوریة، ولما رفضوا قتال الجیش العربی السوری إلى جانب المعارضة، لیتحولوا إلى مرتزقة ضد وطنهم إرضاء لأوهام دیکتاتور ترکیا.. وأیضا، لتظاهروا فی عواصم العالم ضد الرئیس ‘الأسد’ بحجة أنه لم یعد یستطیع حمایة شعبه، ولطالبوا بتدخل دولی لإنقاذهم. وهذا بالتحدید هو ما لم یحصا ویفسر بالتالی سر صمت القیادة السوریة وهدوء الرئیس ‘الأسد’ وابتسامه فی وجه زواره.

ومؤشر هذا التدخل الناعم، هو جنون وزیر خارجیة السعودیة، الهزاز ‘سعود الفیصل’، وإعلانه فی مؤتمر صحفی الإثنین، بمعیة وزیر خارجیة ألمانیا فی جدة، أن إیران تحتل العراق وسوریة والیمن، وعلیها أن تنسحب من هذه الدول إذا أرادت أن تکون مرحب بها فی المنطقة.. فجاء الرد من طهران على لسان السید ‘أمیر عبد اللهیان’، لیذکر أمیر الإرهاب والظلام، أن إیران هی من تقدم المساعدة فی محاربة الإرهاب بطلب من العراق وسوریة وفق القانون الدولی، وأن على السعودیة سحب جیشها من البحرین إذا أرادت أن یکون هناک حل سیاسی.. وهذا تصعید جدید بین البلدین یؤشر إلى أن الأمور لا تبشر بخیر، وأن رد السعودیة على “غزوة صنعاء” سیکون بـ”غزوة لبنان”، فیما تهدد طهران بتعقیب رادع فی البحرین، وإن عدتم عدنا.. لأن الرد بعد ذلک سیکون فی قلب مملکة الظلام إنظلاقا من الشمال والجنوب والداخل بالتزامن مع انفجار المنطقة الشرقیة تحت عنوان “ثورة المظلومین الشیعة ضد ظلم وفساد واستبداد وخیانة آل سعود الیهود”.

ما من شک، أن الطلب الإیرانی، هو بحد ذاته إعلان رسمی عن إستعداد إیران دخول معترک الصراع غلنا ضد حلف المؤامرة على الأرض السوریة کما هو الأمر فی العراق، وهو موجه بشکل غیر مباشر لترکیا، لکن وفق القانون والشرعیة وبموافقة مسبقة من الحکومة السوریة التی لم تعطی بعد ردها على الطلب الإیرانی، لأسباب تکتیکیة تتطلبها طبیعة المواجهة وحساسیتها، فی إنتظار تطورات المیدان لخلق المفاجأة، وتحقیق نقاط إستراتیجیة تربک حسابات واشنطن.. فتفشلها.

من هنا برز التقدیر بأن “الأسد” یخفی مفاجأة من العیار الثقیل ستذهل المراقبین خلال الساعات والأیام القلیلة القادمة.. وهذا أمر لا نتوفر على معلومات لتأکیده، لکنه وارد ومحتمل، بشهادة مسؤولین أمریکیین کبار، حین یقولون أن ‘بشار الأسد’ أصبح ینافس والده ‘حافظ الأسد’ فی الإستراتیجیة والتکتیک، الأمر الذی أذهلنا، بحیث کان یفشل کل إستراتیجیة إعتمدناها بشکل لم نکن نتوقعه.

یضاف إلى ما سلف، التحذیر الشدید اللهجة الذی وجهته طهران لأردوغان من مغبة المقامرة والدخول إلى الأراضی السوریة، لأن مثل هذا العمل ستکون له تداعیات کارثیة على ترکیا والمنطقة برمتها.. ما یعنی، أن ترکیا لا یحق لها الدخول إلى الأراضی السوریة حتى لو کان بحجة محاربة “داعش” لفک الحصار عن کوبانی من دون موافقة الحکومة السوریة.

ترکیا فهمت أن إیران جادة فی تحذیرها، وأنها لن تقعد متفرجة على ما یحدث لسوریة والعراق ویخطط للبنان، ما دامت هی المستهدفة بالنهایة لخیاراتها السیاسیة المعروفة، والمناهضة للهیمنة الأطلسیة والإحتلال الصهیونی لفلسطین.. لأن ما خططت له ترکیا وعرضته على أمریکا والحلف الأطلسی، هو مشروع خطیر یستهدف إنهاء نفوذ إیران والسعودیة ومحور المقاومة مجتمعا فی المنطقة، ویضمن محاصرة روسیا وراء حدودها، ومنع الصین من ولوج الشرق الأوسط أو التوسع فی إفریقیا.

ووفق المعلومات التی کشفت عنها جریدة البناء اللبنانیة الإثنین، إستنادا إلى مصادر عسکریة وقنوات دیبلوماسیة واستخباریة مطلعة على فحوى ما دار من حوار بین الأمریکیین والأتراک حول شروط مشارکتهم فی حلف الدواعش، حیث دار خلاف کبیر تمرکز حول طبیعة العلاقة التی تربط القیادة الترکیة بـ”داعش”، ورفض واشنطن التهاون مع هذا الأمر، خصوصا بعد أن تبین من معارک عین العرب، أن هناک قرارا ترکیا وراء توجیه “داعش” للإستیلاء على المدینة تحضیرا لمنطقة “آمنة” تفرض بأمر الواقع یتبعها حظر للطیران، لأن ترکیا لا یمکن أن تقعد متفرجة على الصراع الدائر الیوم على أنابیب النفط والغاز وکعکة تقسیم المنطقة وتحدید نفوذ اللاعبین الکبار، ولا تفعل شیئا لفرض ما تعتقد أنه یجب أن یکون من نصیبها.

أردغان رفع من سقف المطالب وصعد من شروط مشارکته فی تحالف الفاشلین، لعلمه أن القصف الجوی لن یحسم الحرب على “داعش”، وأن الجیش الترکی وحده قادر على ذلک، لکن بعد إسقاط الأسد، وهذا الأمر یتطلب موافقة أمریکا على إقامة المنطقة العازلة التی ستکون منصة إنطلاق المقاتلین لغزوة دمشق، سواء أکانت معارضة معتدلة أو متطرفة.. لا یهم، فکلهم بالنهایة دواعش.

ترکیا فی هذا الإجتماع، وفق ما ینقل دیبلوماسی للصحیفة، کانت تلعب مع الأمریکی البوکیر، لکن بورق مکشوف على الطاولة.. فجاهرت بحرصها على الحفاظ على مفاصل العلاقة مع “داعش” أمنیا ومالیا، ووضع حدود جدیدة لها تمنعها من التمدد لمناطق لا ترغب أمریکا أن تصلها. لیتبین أن خریطة الدولة الداعشیة یجب أن تقطع العراق من الموصل إلى حدود الأردن والسعودیة، کی لا یبقى لإیران طریق تواصل بری مباشر مع سوریة.

الأمریکیون ذهلوا من خطة ‘أردوغان’ ولم یکونوا یتوقعون کل هذا الإنخراط الترکی الأعمى فی إستراتیجیتهم، لکن بأولویات لا تتوافق مع أولویات ‘أوباما’ وإن کانوا جمیعا یتقاسمون نفس الأهداف، ففی ما تفضل أمریکا إشغال “داعش” فی إنتظار الإنتهاء من إعداد جیش ردیف من المعارضة “المعتدلة” للقیام بالعمل القذر، تشترط أنقرة هجوما بریا کاسحا على دمشق من الشمال والجنوب والشرق والغرب، یشارک فیه الجیش الترکی و”داعش” و”النصرة” وکل الفصائل الأخرى المعارضة، وتتولى “إسرائیل” تغطیة الهجوم من الجنوب.

إعلان طهران أن الرئیس “الأسد” خط أحمر ومحاولة إسقاطه لعب بالنار.. جعل أمریکا تتحفظ مؤقتا على خطة ‘أردوغان’، لأنها فهمت بوضوح أن سقوط کوبانی وما سیتبعه من إقامة منطقة “آمنة” تتحول إلى عازلة بحظر جوی کأمر واقع، یعنی ببساطة “الحــرب الشاملــة”.

وصلت الرسالة إلى ‘أوباما’ وفهم الجمیع أن إستراتیجیة الرئیس فشلت واصطدمت بحائط مسدود فی مرحلتها الأولى.. وأن البانتاغون بصدد مراجعة الإستراتیجیة فی إجتماعات مغلقة مع ‘أوباما’ ومقربیه.. ونحن على یقین أن الجبل حین یتمخض یلد دائما فأرا.. فلننتظر قلیلا، عسى أن یکون المولود هذه المرة قردا، یشبه ‘أوباما’ الذی عودنا القفز من شجرة إلى شجرة.

المصدر: باناروما الشرق الأوسط

رایکم
الأکثر قراءة