تم التحدیث فی: 18 November 2023 - 09:22

جورج جرداق: الفتى المشاغب یهرب مجدداً

أخیراً، أغمض جورج جرداق (1931 ــ 2014) أمس عینه إلى الأبد. لم یکن لشیء أن یقضّ مضاجع أهل الشهرة کما فعلت تلک العین الثاقبة.
رمز الخبر: ۶۱۲۰۸
تأريخ النشر: ۲ ربیع الثانی -۶۴۱ - ۱۸:۳۷ - 06November 2014

جورج جرداق: الفتى المشاغب یهرب مجدداً

علی العزیز

أخیراً، أغمض جورج جرداق (1931 ــ 2014) أمس عینه إلى الأبد. لم یکن لشیء أن یقضّ مضاجع أهل الشهرة کما فعلت تلک العین الثاقبة. عین خارقة للمألوف أمکنها أن تلتقط أدق التفاصیل وتکشف کل مکامن التوریة والغموض، حتى بدا أن من الصعوبة المحاذیة للمستحیل أن تنطلی خدعة ما على صاحب القلم الساخر، الساحر، مهما برع المتحاذقون. رحیل الناس قدر، لکن غیاب أمثال جورج جرداق یؤشّر إلى اندثار مرحلة. منذ اصطدامه الأول بقوانین الحیاة، بدا الفتى الجنوبی القادم من مرجعیون (محافظة النبطیة) عصیاً على الانضواء. ومنذ البدایات الأولى، کانت قضیته کیف یهرب من المدرسة نحو أحد مروج بلدته متأبطاً «مجمع البحرین» للیازجی، ودیوان المتنبی.

لاحقاً عندما ضبطه أهله متلبساً بجرم الفرار من سجن الطفولة، انتصر له شقیقه الأکبر فؤاد، وکان علّامة لغویة متمیّزة، متیحاً له منفذاً استثنائیاً: دعوه یفعل، إنه بذلک یتعلّم أکثر مما یفعل فی المدرسة. أهداه حینها نسخة من کتاب «نهج البلاغة» لعلی بن أبی طالب. لم یدر أنه بذلک یمنحه الفرصة التی کان یحتاج إلیها لیؤلّف موسوعة حول شخصیة تاریخیة مثیرة للاهتمام وللجدل أیضاً. هکذا بدأت حکایة سلسلة تضمّنت خمسة مجلّدات، ختمها بملحق سادس وهی «علی وحقوق الإنسان»، و»علی والثورة الفرنسیة»، و»علی وسقراط»، و»علی وعصره»، و»علی والقومیة العربیة».

أما الملحق، فجاء تحت عنوان «روائع النهج». صدرت من الموسوعة أربع طبعات عن ثلاث دور مختلفة خلال سنة واحدة. أما عدد نسخها فتخطى خمسة ملایین. فی تعلیق له، قال جرداق: «لم أجن قرشاً واحداً من هذه المطبوعات التی ترجمت إلى الفارسیة والأوردیة، لغة مسلمی القارة الهندیة، والإسبانیة والفرنسیة. وعندما أحتاج إلى مجموعة عربیة أو أجنبیة أشتریها على حسابی، فیما لم تکلّف دار واحدة نفسها أن ترسل لی نسخة هدیّة من باب رفع العتب».

فی الثامنة عشرة من عمره، وضع کتابه الأول «فاغنر والمرأة» الذی حاز قبول مرجعیات کبیرة من طرازالشیخ عبد الله العلایلی وعمید الأدب العربی طه حسین، الذی قرّر إدراجه على لائحة المقررات الجامعیة. کان حینها یشغل منصب وزیر المعارف فی مصر. کذلک، حقّقت روایته التاریخیة «صلاح الدین وریکاردوس قلب الأسد» رواجاً استثنائیاً. کان بوسع الکاتب الموضوعی الذی شهدت أعماله قبولاًً منقطع النظیر، أن یتحصّن ببرجه العاجی، لکن حسّه الساخر کان طاغیاً وهذا ما دفعه إلى الاستجابة لنزعة التهکّم التی طبعت شخصیته الإبداعیة، فأصدر مؤلّفات أقلّ تأدباً، وإن لم تکن دون سابقتها أدباً: «صبایا ومرایا» و»وجوه من کرتون» و»حدیث الحمار»، إضافة إلى مسرحیات عدة ومسلسل تلفزیونی.
أیضاً لم یکن جورج جرداق بعیداً عن الشعر. کتب العدید من القصائد، وکان لبراعته الشعریة أن دفعت قمتی الغناء واللحن فی حینه: أم کلثوم ومحمد عبد الوهاب أن یصرّا على أغنیة من إبداعه، هکذا أبصرت أغنیة «هذه لیلتی» النور ذات أمسیة صیفیة بالغة الروعة فی فندق «أمباسادور» المطلّ على وادی «لامارتین» فی جبل لبنان. حصل ذلک عام 1967، وبعد عام من تلک الأمسیة غنّت کوکب الشرق «هذه لیلتی» بعدما وضع ألحانها الموسیقار محمد الوهاب.
الصحافة أیضاً کان لها نصیب من عبقریة الفتى الجنوبی. انتشرت مقالته المترعة بالسخریة على مساحات واسعة من الصحف اللبنانیة والعربیة. لم یکن متطلباً على الصعید المادی. أما شرطه الذی لم یکن مستعدّاً للنقاش بشأنه، فهو أن تنشر مقالته من دون أی تعدیل.

یروی فی إحدى مقابلاته الصحافیة أنه ذیّل بعض مقالاته بأسماء بعض المتطفلین على المهنة، بین هؤلاء من صار له شأن فی عالم الکلمة المکتوبة، ومنهم من ابتسمت له الدنیا بأکثر مما کان یتوقع، أو یستحق. حتى إن غیر واحد ممن بنى حضوره المهنی الزائف على کتابات جورج جرداق وسواه، جاءه یوماً یعرض علیه العمل فی مؤسسات صارت ملکه. کان جرداق یروی تلک الوقائع وعلى شفتیه تلک الابتسامة المختزلة لمعانٍ شتى.


على امتداد ستة أشهر، تبادل جرداق مقالات الهجاء مع الأخوین منصور وعاصی الرحبانی على صفحات مجلة «الشبکة». بدأت الحادثة بمصادفة، لکنها کانت بالغة الروعة، وقد تابعها القراء بشغف غیر مألوف. وعندما اتخذ الطرفان قراراً بوقف السجال الساخر، اعترض صاحب «دار الصیاد» سعید فریحة، مشیراً إلى أن القرار یمثل کارثة له، فقد کان یطبع الآلاف من الأعداد الإضافیة اعتماداً على تلک الأهاجی الممتعة. بعد أکثر من ثمانیة عقود على ولادته، ها هو الفتى المشاغب یهرب مجدداً من مدرسة الحیاة وقد ضاقت به جدرانها الموصدة. یذهب بعیداً نحو مرج العیون المحدقة عمیقاً، بعدما أحدث الکثیر من الکوى فی تلک الجدران الصلبة، وبعدما رسم على ملامحها الشاحبة الکثیر من معالم روحه المتوثبة.

* تقام مراسم تشییع جورج جرداق بعد ظهر غد الجمعة فی کاتدرائیة مار نقولا للروم الأرثوذکس فی الأشرفیة، على أن ینقل جثمانه إلى مسقط رأسه فی جدیدة مرجعیون، حیث یوارى فی ثرى مدافن العائلة.

المصدر: جریدة الأخبار

رایکم
الأکثر قراءة